في زمن تُقاس فيه السعادة بعدد “الإعجابات” والقلوب الحمراء، صار على الإنسان أن يبتسم حتى وإن كان قلبه يئنّ. نعيش اليوم في عالم يفرض علينا أن نبدو سعداء طوال الوقت، كأن الحزن لم يعد شعورًا مشروعًا، بل خطيئة يجب إخفاؤها جيدًا خلف فلاتر الوجوه المضيئة. الكل يهرول وراء صورة مثالية للحياة، صورة مليئة بالألوان الزاهية والضحكات الواسعة، لكنها في العمق تخفي تعبًا هائلًا وضغطًا نفسيًا لا يُحتمل.
بدأت القصة حين تحوّلت السعادة من إحساس داخلي إلى واجب اجتماعي. من الطبيعي أن نسعى لنكون بخير، لكن غير الطبيعي أن نُجبر على أن نبدو بخير دائمًا. وسائل التواصل الاجتماعي، مثل مرآة ضخمة، تعكس ما نريد للعالم أن يراه فقط، لا ما نحن عليه حقًا. ترى أحدهم يضحك على الشاطئ أو يحتفل بنجاحه، فتعقد مقارنة لا واعية، وتبدأ تشعر أن حياتك أقل، وأنك تخلفت عن الركب. تلك المقارنة القاتلة هي البذرة الأولى لتعبك النفسي. ومن جهة أخرى، ساهمت ثقافة الاستهلاك في تضليلنا أكثر. تُقنعنا الإعلانات بأن السعادة تُشترى: بعطر جديد، أو سيارة فاخرة، أو رحلة إلى مكانٍ بعيد.
نحاول ملء فراغنا بالماديات، فنغرق أكثر. لأن السعادة التي تأتي من الخارج لا تدوم، وما لم نجدها في داخلنا، فلن نجدها أبدًا في ما نملك. تخيل أنك تُجبر كل يوم على أن تقول: “أنا بخير” حتى عندما تشعر أنك تنهار.
كم من الطاقة تُستهلك في تمثيل دور الإنسان السعيد؟ كم مرة ابتسمت وأنت في الحقيقة تودّ أن تبكي؟ هذا القناع الذي نرتديه خوفًا من نظرة المجتمع، يتحول مع الوقت إلى عبء ثقيل. فحين تكبت مشاعرك مرارًا، لا تختفي، بل تتراكم داخلك ككتلة صامتة من الغضب والقلق. المشكلة أن هذه الثقافة تجعل من الحزن عيبًا.
من يقول “أنا متعب” أو “أنا حزين” يُنظر إليه كأنه ضعيف أو غير ممتن. فتختنق المشاعر في الصدر، ويتحول الإنسان إلى ممثل بارع يؤدي دورًا لا يشعر به. لكن الحزن، في حقيقته، ليس عدوًا للسعادة. إنه معلمها الأول.
من لم يعرف الألم، لن يعرف لذة الراحة. ومن لم يختبر الانكسار، لن يعرف قيمة النهوض. ربما ما نحتاجه ليس المزيد من الضحك المصطنع، بل الصدق. أن نعترف أننا أحيانًا نتعب، وأن الأيام لا تكون جميلة دائمًا، وأن في داخلنا فصولًا كثيرة، منها ما يُزهر، ومنها ما يُعصف.
حين نمنح أنفسنا إذنًا بأن نحزن، نتحرر. لأننا نكفّ عن مقاومة إنسانيتنا، ونبدأ في تقبّلها كما هي. الوعي الذاتي هو أول خطوة للخلاص من هذه الدائرة. أن تتوقف لحظة وتُصغي لنفسك، أن تعرف ما الذي تشعر به فعلًا، لا ما يُفترض أن تشعر به. أن تكفّ عن مقارنة حياتك بالآخرين، لأن ما تراه من حياتهم ليس إلا لقطة مختارة بعناية من فيلم طويل لا تعرف أحداثه الحقيقية. عندما يشتد التعب، يصبح الدعم الإنساني ضرورة لا رفاهية. فوجود من يُنصت بإخلاص ويشارك الصمت قبل الكلام يمنح القلب مساحة لالتقاط أنفاسه. الحديث الصادق يخفف ما يعجز الصمت عن احتماله، ويعيد ترتيب الفوضى الداخلية التي يراكمها التظاهر بالقوة.
فالمساندة ليست ضعفًا، بل تعبير عن وعي الإنسان بحاجته إلى الآخر، وإدراكه أن التوازن النفسي لا يتحقق في العزلة التامة. السعادة الحقيقية لا تنبع من إنجاز خارجي أو امتلاك مادي، بل من لحظة صفاء داخلي تتكوّن حين يهدأ الصراع بين ما هو كائن وما يُراد أن يكون.
هي حالة من التصالح مع الذات، بكل تناقضاتها وتعرجاتها، حين يتقبل الإنسان فوضاه دون شعور بالذنب. فالحياة لا تُبنى على استقرارٍ دائم، بل على حركةٍ بين الضوء والظل، بين الفرح والحزن. والاكتمال الإنساني لا يتحقق بإقصاء الألم، بل بالقدرة على استيعابه كجزء من التجربة. فالحزن ليس نقيض السعادة، بل رفيقها الخفي الذي يمنحها معناها، ومن يقدر على احتواء ضعفه يدرك جوهر السلام الداخلي في أبسط صوره.
 
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                                             
                                 
                                     
    
    
    
     
    
    
        
        
            