قد يواجه الكثير من الناس صوتًا داخليًا يلاحقهم أينما ذهبوا، صوت لا يرحم ولا يهدأ، يذكّرهم دومًا بأخطائهم، ويضخم عثراتهم، حتى يشعروا أنهم لا يستحقون نجاحًا أو فرحًا أو راحة. هذا الصوت هو ما يُطلق عليه علم النفس اسم جلد الذات، وهو ظاهرة شائعة يعاني منها عدد كبير من الأفراد حول العالم، بوعي منهم أو دون وعي.
جلد الذات ليس مجرد نقد عابر للذات، بل هو حالة من المحاكمة المستمرة التي يوجهها الإنسان لنفسه، حيث يصبح القاضي والمتهم في الوقت ذاته. والمفارقة أن هذا السلوك لا يقود إلى التطوير كما يظن البعض، بل يُضعف الثقة ويزيد من مشاعر الذنب والإحباط. بينما يفتح النقد البنّاء الطريق أمام النمو، يغلق جلد الذات كل الأبواب ويترك الإنسان عالقًا في دائرة من اللوم المستمر.
تظهر علامات جلد الذات بطرق مختلفة، فقد يشعر الشخص أنه مسؤول عن كل خطأ يحدث حوله، حتى في المواقف الخارجة عن سيطرته. وقد ينظر إلى إنجازاته بعين ناقدة، لا يرى فيها سوى النقص والقصور. ومع الوقت، يبدأ في الانعزال عن الآخرين خوفًا من الفشل أو من انتقاد نفسه بعد أي موقف اجتماعي. والأسوأ أن بعض الأشخاص يرهقون أنفسهم بالعمل أو الدراسة المفرطة، وكأنهم يعاقبون أنفسهم على الراحة، فيعيشون في صراع داخلي مستمر.
ويتخذ جلد الذات أشكالًا متعددة. فهناك من يعيش جلد الذات العاطفي، إذ يظل يلوم نفسه على تجارب ماضية أو علاقات لم تكتمل. وهناك من يستنزف نفسه عقليًا، يرهقها بالدراسة والتفكير المستمر مع شعور دائم بعدم الكفاءة. أما على الصعيد المهني، فيشعر البعض أنهم غير جديرين بمكانتهم أو أن ما يحققونه من نجاح لا يرقى إلى المستوى المطلوب. وفي المجال الاجتماعي، يحمّل البعض أنفسهم مسؤولية أي خلل في العلاقات، مما يدفعهم إلى العزلة والانطواء. وفي الحالات الأشد خطورة، قد يتحول جلد الذات إلى حالة مرضية مرتبطة بالقلق أو الاكتئاب، وقد يقود إلى إيذاء النفس.
هذا السلوك يترك أثرًا بالغًا على الصحة النفسية والجسدية معًا. فمن الناحية النفسية، يزيد من احتمالية الإصابة بالاكتئاب، القلق، واضطرابات النوم، ويقود إلى فقدان الثقة بالنفس والشعور الدائم بانعدام القيمة. أما اجتماعيًا، فإنه يعزز العزلة ويضعف القدرة على تكوين علاقات صحية. بل قد يمتد تأثيره إلى الجانب الجسدي، حيث إن التوتر المستمر ينهك الجسد ويضعف المناعة.
لكن الخبر الجيد أن جلد الذات ليس قدرًا محتومًا، ويمكن تجاوزه متى أدرك الإنسان وجوده في حياته وقرر مواجهته. تبدأ الخطوة الأولى من خلال الوعي بالأخطاء وتقبّلها كجزء طبيعي من مسيرة الحياة، فالفشل ليس نهاية المطاف بل محطة للتعلم. يلي ذلك العمل على تغيير الحوار الداخلي، واستبدال الجمل السلبية بأخرى أكثر رحمة ولطفًا، مثلما نتحدث مع صديق نحبّه ونشجعه بدلًا من أن نحكم عليه بقسوة. كذلك، يساعد التعاطف مع الذات على تخفيف أثر هذا السلوك، بأن ندرك أننا بشر ولسنا مطالبين بالكمال.
ومن المفيد أن يتعلّم الإنسان كيف يضع حدودًا لنقده الذاتي، فيسأل نفسه: "هل ما أقوله لنفسي يساعدني على التطور، أم أنه مجرد هجوم يرهقني؟". كما أن مكافأة النفس على الإنجازات الصغيرة، مهما بدت بسيطة، تساهم في إعادة بناء الثقة وتعزيز النظرة الإيجابية. وإذا شعر الفرد أن الأمر خرج عن سيطرته، فإن طلب المساعدة من مختص نفسي يصبح خطوة ضرورية، حيث يساعد العلاج النفسي، وخاصة العلاج السلوكي المعرفي، في تفكيك جذور جلد الذات وإيجاد بدائل صحية له.
إن جلد الذات، على قسوته، ليس نهاية الطريق، بل يمكن أن يكون دعوة صريحة لإعادة النظر في الطريقة التي نتعامل بها مع أنفسنا. فالحياة ليست محكمة دائمة نصدر فيها الأحكام على ذواتنا، وإنما رحلة نتعلم فيها من أخطائنا وننمو بمرور الزمن. والإنسان الذي يختار أن يكون رحيمًا بنفسه، لا يضعف، بل يزداد قوة لأنه يدرك أن الرحمة مع الذات هي أول خطوة نحو التغيير الحقيقي.